هارون محمد
كان منظر المدعوين المحسوبين علي العرب ممن حضروا مراسيم تشكيل الحكومة المحلية الكردية في اربيل امس الاول مزرياً، وهم يجلسون في مقاعدهم الوثيرة في مبني مقر الحكم الذاتي سابقاً، وهو المبني الذي بناه وشيده الرئيس السابق صدام حسين، وافتتحه في الثمانينات، حتي انهم ظهروا في الصور التي بثتها التلفزة وكأنهم طرشان في سيرك صاخب، لا يفقهون ماذا يقال، ولا يعرفون ماذا يجري؟ بعد ان اصر مسعود بارزاني رئيس ما يسمي باقليم كردستان المعلن من طرف واحد، علي استبعاد اللغة العربية من الحديث والتداول بها خلال الحفل واقصاء العلم العراقي الرسمي والاكتفاء بنشر اعلام هي اشبه بخرقة صفراء يقال انها استخدمت في جمهورية (مهاباد) للحكم الذاتي في ايران التي اقامها رئيس الاتحاد السوفييتي الاسبق جوزيف ستالين عام 1946 ولم تعمر غير احد عشر شهراً بالتمام والكمال، بعد اعدام رئيسها المخدوع قاضي محمد وهروب رئيس اركان جيشها ملا مصطفي بارزاني الذي منح نفسه رتبة جنرال وقتها وهو الذي لا يفهم في الشؤون العسكرية غير الهرولة فيتسلق الجبال والاختفاء في المغارات ونصب الكمائن لاغتيال شيوخ الزيباريين والهركية والسورجية والبرادوست الاكراد، وقتل الجنود والضباط والموظفين العراقيين.
ولعلها من المفارقات ان هذه الحكومة التي رأسها نيجرفان بارزاني وهو ابن اخ مسعود وزوج ابنته، جاءت بعد إثني عشر عاماً علي انهيار الحكومة الكردية المشتركة بين حزبي بارزاني وطالباني 1994 وعقب سلسلة من المعارك والحروب بين الحزبين سقط فيها اكثر من ثلاثين الف كردي بين قتيل وجريح ومعوق حسب بلاغات الجانبين، وتخريب مئات القري والقصبات الكردية وتشريد اكثر من نصف مليون كردي تركوا مناطقهم ولجأوا الي اوروبا وكندا وامريكا، وكانت ذروة المعارك بين الحزبين قد وقعت في عام 1996 وانتهت باستنجاد مسعود بارزاني بالرئيس صدام حسين الذي ارسل كتيبة واحدة الي اربيل في الحادي والثلاثين من آب (اغسطس) من العام نفسه، نجحت في ساعتين فقط من الحاق الهزيمة بميلشيات طالباني التي كانت تحتل المدينة وكان عدد افرادها ثلاثين الف بيشمركة هربوا الي ايران لا يلوون علي شيء، ومما يحز في النفس ان الرئيس السابق بدلاً من اعادة اربيل الي الوطن فانه سلمها هدية الي مسعود الذي نزل الي المدينة من مقره في قصبه صلاح الدين، وأدي التحية العسكرية لقائد الكتيبة وقبل العلم العراقي في مشهد بثه تلفزيون بغداد اكثر من مرة مساء الاول من ايلول (سبتمبر) 1996، وبعد عشر سنوات يطلع علينا مسعود بتصريحات ويتخذ اجراءات بمنع رفع العلم العراقي في المنطقة الكردية مبرراً ذلك بأن الجيش العراقي حارب الاكراد تحت هذا العلم، وينسي او يتناسي ان هذا الجيش هو الذي سلمه اربيل، ويتغافل عن قبلاته الحارة للعلم العراقي يومذاك، دون ان يدرك ان ذاكرة العراقيين طرية دائماً لا تهمل الاحداث والوقائع والتواريخ. وقال لي فؤاد معصوم وكان رئيس الحكومة الكردية في اربيل في ذلك العام وأسره مسعود بارزاني ضمن أسري حزب الاتحاد ، عندما التقيته في لندن نهاية 1997 وهو يسرد احداث ذلك اليوم، ان مسعود بارزاني قد جمع اهله ومحازبيه واقاربه للهرب الي تركيا بعد ان نجحت ميليشيات حزب الاتحاد الوطني في الاستيلاء علي معظم المناطق التي كان يتحكم بها، وحاصرته في منتجع (سره رش) متحصناً في قصر صدام الصيفي، غير ان نجدة الرئيس السابق احيته من جديد واعادت له الحياة والامتيازات والسلطة.
وعموماً فان هذه الحكومة الكردية المحلية لا يمكن ان تستمر طويلاً لأنها شكلت وفق طريقة (الترقيع) وشارك فيها حزب الاتحاد الوطني بقصد احراج مسعود الذي يتطير من قادة هذا الحزب وخصوصاً طالباني وكوسرت وانو شيروان وكمال فؤاد، وقد سعي خلال السنوات العشر الماضية الي التحريض ضده لدي النظام السابق وتركيا وامريكا واتهامه بأنه تابع للمخابرات الايرانية، وقد وضع عدد من الذين رافقوا قوات الاحتلال الي بغداد ايديهم علي بعض وثائق الرئاسة السابقة ومنها وثيقة يحتفظ بها الاتحاد الوطني في السليمانية حاليا، تتضمن محضر اجتماع عقد بين صدام حسين ومسعود بارزاني في القصر الجمهوري ببغداد في منتصف تموز (يوليو) 2002، وفيه يقول مسعود للرئيس السابق: سيدي الرئيس القائد ان جماعة جلال في السليمانية استقدموا مجاميع من الحرس الثوري الايراني واخشي ان يهاجموا اربيل ويستردوها منا، فيرد عليه صدام لا تقلق كاكة مسعود من هذه الحركات، لان جلال يعرف جيداً انه اذا (لعب بذيله) من جديد، فسأحرم عليه (شوفة) السليمانية، و(شوفة) في اللهجة العراقية الشعبية تعني رؤية او مشاهدة.
وقد حرص مسعود بارزاني منذ مصالحته مع جلال طالباني في واشنطن في ايلول (سبتمبر) 1998 برعاية وزيرة الخارجية الامريكية وقتئذ مادلين اولبرايت علي تفادي توحيد حكومتي اربيل والسليمانية بمختلف السبل والذرائع، وكان يردد انصاره وما زالوا مقولات بعضها صحيح وبعضها الآخر مبالغ به عن آلاعيب جلال وشلته ويبدون خشية منه، وقد وضح ذلك عندما تم تعيين طالباني رئيساً انتقالياً للجمهورية ببغداد في العام الماضي، وينقل عن مسعود انه ابلغ اعضاء في المكتب السياسي لحزبه كانوا يرغبون بأن يتولي هو لا جلال رئاسة الجمهورية، ان (الكردي) في بغداد سواء كان رئيساً او مسافراً عابراً هو سجين في حقيقة الحال، وعليكم ان تفرحوا لأن خصمنا الاول بات سجيناً وها قد تخلصنا من رأس اعدائنا الذي سيأكله الملالي الشيعة، ومما يؤكد هذا القول ان بارزاني نأي بنفسه عن المشاحنات التي قامت بين جلال وابراهيم الجعفري ولوحظ انه مسك العصا من الوسط، ولم يبد رأياً او موقفاً واضحاً في هذا الامر، وكأنه يريد ايصال رسالة الي قادة الاحزاب الشيعية بأنه علي الحياد في هذه المسألة رغم كردية طالباني.
والملاحظة الاخري التي برزت خلال المشاورات التي سبقت اعلان الحكومة الكردية المحلية الجديدة، ان مسعود اصر منذ البداية ان يكون ابن شقيقه وزوج ابنته نيجرفان علي رأسها، وعندما واجهه كوسرت رسول في واحدة من الاجتماعات، اين هي الديمقراطية التي نتحدث عنها نحن الكرد ونفاخر بها امام الآخرين، عندما تكون انت رئيساً للاقليم وابن اخيك رئيساً للحكومة؟ فرد عليه مسعود ساخراً، هذه ديمقراطية بارزانية.. انتم احرار في القبول بها او رفضها، وفي محاولة من حزب الاتحاد الوطني احداث توازن في هيكيلة الاقليم فقد اقترح استحداث منصب (نائب رئيس الاقليم) يعطي لـ الاتحاد الوطني حتي لا تظهر الصورة وكأنها سلطة عائلية وعشائرية، ورفض مسعود الاقتراح جملة وتفصيلاً وقال لممثلي الاتحاد غاضباً: اعرفكم جيداً.. تريدون ان تفصلوا بيني وبين ابن اخي بهذا المنصب، لا اقبل هذا الاقتراح الذي اشم منه رائحة ثعلبية متآمرة علي البارزانيين، بل ان مسعود الذي جر الي لعبة تشكيل حكومة كردية موحدة ـ كما يسمونها ـ جرا، رفض ايضاً ان يكون واحدا من ثلاثة (انوشيروان مصطفي، كوسرت رسول، كمال فؤاد) وهم قادة حزب الاتحاد الوطني حالياً، نائباً لرئيس الحكومة، لأنهم في رأيه معادون تاريخياً له ولأسرته وعشيرته، ووافق ان يسند هذا المنصب الي عمر فتاح لأنه يوصف لدي الاكراد بأنه موظف يمتثل دائماً لرؤسائه وينفذ رغباتهم بلا مناقشة، وقبل ايام ساق ثلاثة صحافيين اكراد يعملون في صحيفة (هولاتي) الصادرة في السليمانية الي المحاكمة، لأنهم نشروا تحقيقاً صحافياً تضمن إمتناع فتاح عن دفع (فاتورة) هاتف خاص بأسرته بلغ كشف حسابه آلاف الدولارات، وطرد موظفاً لدي مقسم هاتف السليمانية اعتقد انها وصل (الخبرية) الي الصحيفة.
ولمناسبة ذكر الصحافة والصحافيين في المنطقة الكردية فقد احتفت صحافة مسعود بارزاني في آذار (مارس) الماضي بذكري عملية كركوك كما اسمتها، التي جرت في منتصف اذار/مارس 1969 واعتبرتها من المآثر التي حققها البيشمركة في الهجوم علي حقول وآبار النفط في كركوك وثمنوا دور قائدها سامي عبدالرحمن الذي لقي مصرعه قبل عامين.
ويبدو ان صحافة اربيل التي مجدت ذلك العمل الجبان الذي هو جزء من ممارسات البيشمركة في تخريب الثروة الوطنية وتدمير الموارد العراقية، عمدت الي عدم الخوض في تفاصيل العملية اياها، واكتفت بالاشارة اليها فقط، لأنها تعرف بأنها من تخطيط (الموساد) الاسرائيلي، وأعد لها الرائد الصهويني اسحق ابديه، الضابط السابق في وحدة المظليين قبل انتدابه الي الموساد.
وكان هذا الرائد الذي التحق بمقر ملا مصطفي بارزاني في (كلالة) في الاول من كانون الاول (ديسمبر) 1968 كضابط ارتباط بين العصاة الاكراد والموساد، قد اختار مجموعة من البيشمركة ودربها علي تفكيك المدافع وكيفية نقلها وتركيبها في ضواحي كركوك لضرب حقولها وكان الهدف منها هو تخريب منشآت النفط واضعاف الاقتصاد العراقي وتهديد الشركات الاجنبية التي كانت تعمل في تلك المنشآت حينذاك وإجبارها علي دفع اتاوات لقيادة حركة التمرد الكردية.
ويقول الرائد ابديه في مذكراته التي نشر جزء منها الكاتب والباحث الاسرائيلي شلومو نكدي مون في كتابه (الموساد في العراق) انه ناقش الخطة مع موشي دايان وزير الدفاع الاسرائيلي وقتئذ ورئيس الموساد زامير حينذاك وحصل علي موافقتهما عليها. ويتحدث الكتاب عن الخطوات والمراحل التي قام بتنفيذها يساعده في ذلك سامي عبد الرحمن وكان الساعد الايمن للملا مصطفي لضرب حقول النفط في كركوك، ويقول عندما اكتملت الاستعدادت للعملية طلب منه رؤساؤه في الموساد ان يعود الي اسرائيل قبل تنفيذ العملية بأيام خشية فشلها والقاء القبض علي المسؤولين والمنفذين لها، ولكن ضابط الموساد ابديه يقول لقد وصلتني برقية من سامي عبد الرحمن في اليوم التالي للعملية السادس عشر من آذار (مارس) 1969 مصدرها مكتب بارزاني في طهران يقول فيها: (صديقي الغالي.. آمل ان تكون بخير، العملية كانت ناجحة ونحن علي ثقة كاملة من ان نصيبك فيها كان كبيراً ولولا مشاركتك لما نجحت العملية). ويضيف ضابط الموساد وبعد فترة وجيزة من العملية، وصل سامي الي اسرائيل في زيارة قصيرة لاطلاع المسؤولين الاسرائيليين علي ظروف العملية ونتائجها، والاستعداد لتنفيذ عمليات اخري مشتركة. ولمزيد من الاطلاع علي تفاصيل هذه العملية التخريبية يمكن العودة الي كتاب (الموساد في العراق) صفحات 226-219 وفيها الكثير من التفاصيل.
يبقي شيء واحد يبدو ان القيادات الكردية في شمال العراق لا تتمعن فيه ولا تستلهم منه العبرة، وهو ان الاعتماد علي الاجنبي سواء كان الاتحاد السوفييتي السابق او شاه ايران او واشنطن او الموساد الاسرائيلي محكوم بالفشل دائماً، لأن هذا (الاعتماد) لا يقوم علي أسس سياسية وطنية او اخلاقية، والاجنبي له مصالحه قبل مصالح التابعين له، وسيأتي يوم لا شك فيه ويتخلي بوش ورامسفيلد وزلماي خليل زاد عن الاحزاب الكردية وحكومتها الحالية او المقبلة، كما تخلي عنها هنري كيسنجر وشاه ايران في اذار (مارس) 1975 عندما وجد الاثنان ان مصالح بلديهما تتعارض مع استمرار ما سمي في حينه بالحركة الكردية.. وانتظروا.
2006/05/09
قسم الآراء والمشاركات العامة
مركز الإعلام التركماني العالمي
Global Turkmen Media Centre